تحت التوتة..
(1)
كانت تسبقه الحمامات التى طالما وقفت على كتفيه فى سلام ،يتابع سيره فى مهل يتناسب و بدانته الملحوظة،بقيت خطوات ويصل إلى شجرة التوت العتيقة التى غرسها أمام حقله من سنوات مضت ،هاهو الحقل خلف داره التى تعلوها ابراج الحمام ، يجلس تحت ظل الشجرة مستنداً على جذعها الضخم ، يرنو ببصره إلى الأمام ليتابع الماشية التى تجر خلفها المحراث الخشبى العتيق ، مازال هناك متسعاً من الوقت كى ينجز إبنه البكرى ماتبقى من حرث للأرض العفية السمراء ،تستدير الماشية فى طريق الاياب والأبن يقبض بيديه على المحراث فى قوة ومهارة ، كان بنيانه قوياً وتنضح من جبهته حبات العرق ،يضع على كتفه السوط القطنى (الفرقلة) الذى يستخدمه لحث الماشية على العمل حين تقاعسها ،كان العرق قد بلل أكتافه فإلتصق الثوب بها ،كان الأب يرمقه بنظرة الحنان والرضا حين إقترب منه كثيراً ، لوح بالسلام والتحية لوالده ،وصل إلى حافة الحقل ليلتقط جرة الماء يتجرع منها مايطفىء نار ظمأه ، يستدير بالماشية لمشوار جديد ، يتغنى الأب طرباً(ما أحلاها عيشة الفلاح ).
(2)يميل الأب بجذعه بعد أن تململ من الجلوس والمتابعة ،إستند برسغه الأرض ومال برأسه على ساعده وبسط قدميه ليغفو هنيهة تحت ظل الشجرة الوارف ، كانت الحمامات تدرج أمامه تلتقط ماعن لها من خيرات الأرض المطموسة ،توقف الهواء عن الحركة ، كانت رطوبة الجو زائدة مع حرارة الشمس ، أحسها الأب تحت الظلال بالعرق يتفصد من جبينه ،رمق ببصره مابقى من عمل فى الحقل ،كان الثلث تقريباً ، أحس أن الشمس تتوسط السماء وأن حرارتها لافحة تشوى الوجوه ، أشفق على ولده وأكله قلبه خوفاً عليه ،إعتدل جالساً فى مكانه حتى يستطيع تقدير الموقف ،كان إبنه فى مشوار العودة ،الأب يتابع بشغف منتظراً لحظة الإقتراب منه ، حتى وقف على قدميه حين بدا قريباً منه ، أشار له بيديه ليكف عن العمل ويرتاح قليلاً فى ظل الشجرة ، كان الثوب قد إلتصق بالجسد من شدة العرق ،أومأ له الأبن برأسه بالموافقة ، فجلس الأب مكانه ثانية ، غافله الأبن وإنطلق بالماشية فى مشوار جديد ، جن جنون الأب وهاله عناد ذلك الأبن الذى لايخش حرارة الشمس الملتهبة ، فرفع يديه إلى السماء وقال : ( يانار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم ).
(3)
ظل الأب يفكر ماذا يفعل ليوقف هذا الفتى الجامح ، فهو يعرف عنه أنه عنيد عصبى المزاج ، إنه إبنه البكرى أول فرحة له فى هذه الدنيا ، وكانت فرحته الكبرى حين ملأ عليه حفيده حياته بالبهجة والسرور ، ماله لايدرك الخطر المحدق به فوق رأسه ،هل يستوقف بعض المارة لمساعدته فى حثه على التوقف عن العمل ، لاشك أنه سيغضب كثيراً لهذا التصرف ، ظلت الأفكار تدور برأس الأب والوقت يمر والشمس تقدح شررها على الرؤوس ، لابد لى من وسيلة ، حتى وقف مبتسماً يمشى فى سرعة لا تتناسب وحمله الثقيل ،كان فى طريق العودة الى داره على مقربة من الحقل ، وهو على عتبة الدار قال ( قلبى على ولدى إنفطر ، وقلب ولدى علىّ حجر) .
(4)
كان الأبن مستغرقاً فى العمل لايأبه لحرارة الشمس ولا لتوسلات والده ، رغم أن ملح العرق كان يلهب جلده الخشن،ساعده فتوة الشباب وحميته ، كان يهون على نفسه الأمر بالقليل الذى لم يكتمل حرثه ،الماشية تعلن عصيانها بصيحاتها العالية ، تتوقف عن المسير فيلهب ظهرها بالسوط ، عاد الأب مسرعاً فى الخطى إلى داخل الحقل ، هاهو يقترب كثيراً خلف إبنه ، بسمع الأبن دبيب الخطى خلفه ، يلتفت بنظرة خاطفة مستطلعاً الأمر، حتى جرى مسرعاً إلى والده وهو يصيح : لماذا جئت به يا أبى ؟؟؟ كيف هان عليك والشمس تدنو من الرؤوس ، حتى إنتزعه من على كتفيه وضمه إلى صدره وهو يحجب عنه قرص الشمس ، وهم مسرعاً إلى الدار، فجذبه الأب من جلبابه وهو يصيح به فى نبرة الواعظ ( لعلك أدركت الآن كيف تكون معزة الولد ، وأنا أب يخشى على إبنه مثلما أنت الآن تخشى على إبنك ، وقد هدانى الله لتتعلم الدرس جيداً ) ،وتركه يعدو ليسابق الزمن ,قال وهو يفك وثاق الماشية ( أعز من الولد ولد الولد ، لكن ليس من الامر بد ).